علي أحمد
هل كان إثبات أن الجيش – تحت قيادة البرهان وكيزانه – قد تحول إلى مليشيا جهوية وقبلية يحتاج دليلاً أكثر وضوحاً من مقطع الفيديو الذي يظهر فيه أحد ضباط الجيش برفقة عدد من جنوده، وهو يحقق بفظاظة وغلظة وتحت تهديد السلاح مع عمدة قرية زينوبة، الواقعة في ريف سنجة؟ هذه القرية التي تسكنها أغلبية من قبيلة “العريقات”، وهي قبيلة عريقة تعود أصولها إلى عرب دارفور، سكنت هذه المنطقة قبل استقلال السودان وتشكيل هذا الجيش.
هذا الفيديو، بما يحمله من مشاهد قاسية ومروعة، جعل جميع أبناء وبنات هذه القبيلة عرضة لخطر التصفية والاعتقال والتعذيب، تحت تهمة التعاون مع قوات الدعم السريع التي انسحبت مؤخراً من مناطق سنجة والدندر، مما جعل النساء والأطفال يفرون إلى جنوب السودان!
صحيح أن المليشيات الإسلاموية الإرهابية، التي تقاتل إلى جانب الجيش، ترتكب انتهاكات واسعة بحق الجماعات والأفراد من أصول دارفورية في مناطق عديدة، منها الجزيرة وسنار والخرطوم، ولكن الأصح أيضاً أن الجيش نفسه يمارس انتهاكات أعنف وأشد على أسس عرقية وجهوية. ومقطع الفيديو الذي يظهر التحقيق المهين مع عمدة قرية زينوبة، وقبله الفيديو الشهير الذي وثق جندياً من الجيش وهو يقتاد فتاة تحت تهديد السلاح ويجبرها على نزع غطاء وجهها والنطق بما يمليه عليها، يمثلان مثالين صارخين على هذا النهج.
هكذا حول كيزان الجيش الحرب، التي أشعلوها في 15 أبريل 2023، إلى حرب جهوية وقبلية لا تُبقي ولا تذر.
الانتهاكات التي تستهدف جماعات بعينها، خصوصاً تلك التي تقطن قرى مثل شكا، العمارة، وزينوبة، وغيرها من القرى الواقعة بين مدينتي سنجة وسنار ومناطق وقرى السوكي والدندر، يرتكبها الجيش أولاً، ويعاضده في ذلك عناصر مليشيا “كتائب البراء” الإرهابية.
هذه القرى لم تكن يوماً حاضنة للدعم السريع، كما يدّعي الجيش، بل عاشت هذه الجماعات في هذه الجغرافيا منذ قبل استقلال السودان، متعايشين ومتزاوجين حتى تجاوزوا فكرة الانتماء العرقي القديم إلى دارفور. ومع ذلك، تصر قيادة الجيش الإسلاموية على تحويل الحرب إلى صراع عرقي.
فبعد انسحاب الجيش من ولاية سنار عند وصول طلائع قوات الدعم السريع، لم تقم هذه القيادة بواجبها الدستوري والأخلاقي والمهني في حماية المواطنين، وتركتهم عرضة للخصم. وعندما عاد الجيش، بدلاً من أن يحمي السكان، أصبح يحاسبهم على بقائهم في قراهم ويتهمهم بالتعاون مع الدعم السريع. كيف يمكن لجيش محترم أن يطالب مواطنين عزل بمقاومة قوات مسلحة، بينما يهرب هو (المسلح) من المعركة؟ هذا سؤال يفضح ضعف الجيش الكيزاني، الذي يبدو أسداً على المدنيين، ونعامة في مواجهة الأعداء.
التقارير الواردة من القرى التي انسحبت منها قوات الدعم السريع تكشف عن مشاهد مروعة. فالجيش، الذي يفترض أن يكون درعاً للوطن، تحول إلى قوة قمعية ترتكب الجرائم بحق المدنيين. في مدينة سنجة وريفها وقرى ولاية سنار والدندر والسوكي، وقبلها في الجزيرة من ذبح وبقر للبطون والتصفيات العرقية للعشرات في حلفاية الملوك بالخرطوم بحري، وفي مناطق أخرى أيضاً تم توثيق العديد من الانتهاكات الفظيعة، من تصفيات واعتقالات على أسس عرقية وجهوية، بذريعة التعاون مع قوات الدعم السريع.
أما “كتائب البراء”، فقد تجاوزت حتى الجيش في فظاعة جرائمها. وقد أظهرت مقاطع فيديو تهديدات صريحة بالذبح وجهها إرهابيون من هذه المليشيا لسكان أحياء في سنجة، مبررين ذلك باتهامهم بالتعاون مع الدعم السريع. هذه التهمة أصبحت أداة لتصفية الحسابات، دون مراعاة لحرمة النساء أو الأطفال أو كبار السن.
إن هذه الحرب التي أدارها البرهان وكيزانه ليست إلا واجهة لصراع جهوي وقبلي تغذيه القيادة الإسلاموية الحالية للجيش. الجرائم التي ارتكبت بحق الأبرياء، من تصفيات واعتقالات وتهجير، ستظل وصمة عار لا تمحى عن جبين هؤلاء القتلة، وسيأتي يوم يُقتص فيه للشعب السوداني من كل من تلطخت يداه بدماء الأبرياء.