منعم سليمان
في مفارقة سياسية لا تخلو من سخرية التاريخ، خرج الحزب الشيوعي السوداني، أمس، ببيان غارق في الإنشاء المتخم بالفراغ، مصطفًّا بوضوح خلف خطاب طالما احتكره الإسلاميون، مدافعًا عنهم أكثر مما يدافعون عن أنفسهم. هذا البيان، الرافض للعقوبات الأميركية المفروضة على حكومة الأمر الواقع على خلفية استخدام الجيش لأسلحة كيميائية، لا يُعدّ انحرافًا طارئًا في مسار الحزب، بل هو امتداد طبيعي لمواقف متماهية دامت طوال فترة الانتقال، التي كان أحد أكبر أدوات تمييعها من الداخل؛ إذ بدا، في كل مفصل حاسم، كأحد معاول هدمها.
فمنذ أن انطلقت شرارة الثورة، لم يغب الحزب عن مشهد الانقلاب الزاحف، لكنه لم يكن يومًا في مواجهته، بل ظل في هامشه، يعيد إنتاج شعارات قديمة على أنقاض واقع يتطلب وضوحًا لا يحتمله خطابه العدمي المتآكل!
إن اللغة التي تبنّاها البيان، والمحمّلة بمفردات السيادة والوطنية ومناهضة الإمبريالية، لا تحجب حقيقة تموضع الحزب في صميم خطاب الإسلاميين وعسكرهم. فبدلًا من أن يطالب الحزب بمحاسبة من تثبت إدانتهم باستخدام أسلحة محرّمة، نجده يدين العقوبات المفروضة عليهم، بل ويتحدث عن “مزاعم” استخدام هذه الأسلحة، وكأن الضحايا أشباح أو كائنات فضائية، لا بشرًا صرعتهم الغازات، وسمّمت مياههم، وأذابت لحومهم بفعلٍ محرّم.
والحزب، في هذا المقام، لا يدافع عن الشعب كما يزعم، بل يعفي القاتل من دم الضحية، ويلقي باللائمة على من يسعى إلى محاسبته، ويشكك في دوافعه، لا في من ارتكب الجريمة. ثم يمضي، في محاولة مكشوفة للمراوغة، ليعبّر عن “توجّسه” ممّا سمّاه “طمس الأدلة”، وليس هناك ثمة ما يطمس الأدلة أكثر ممّا جاء في بيانه هذا!!
ولأن العجز عن مواجهة الواقع لا يكفي، يواصل الحزب في بيانه لعبة التوازن الزائف: يدين العقوبات، ويدين استخدام السلاح المحرَّم، ويدين الحرب، ويدين التدخُّل، لكنه لا يدين الفاعل مطلقًا، بل يختزل العدالة في رفض “الهيمنة الإمبريالية”، لا في ملاحقة القتلة!
وفي هذه الرقصة الملتبسة بين المبادئ والشعارات، يغدو الشيوعي حليفًا موضوعيًا للإسلامي، وناطقًا بلسان “سيادة” زائفة تُشيَّد بالبنادق على أنقاض المدن!
إن ارتباك وازدواجية الخطاب الشيوعي في هذا السياق لا يُقرأان إلا بوصفهما امتدادًا لتاريخ طويل من المواقف الرمادية المريبة، إذ تحوّل، وبكامل وعيِهِ وقيادته، إلى جزء من جوقة تبرّر بقاء السلاح في يد الطغاة، وتدين العقوبات أكثر ممّا تدين الجرائم. هذا الانقلاب القيمي والسياسي لم يعد يثير الدهشة، بقدر ما يعكس أزمة عميقة في بنية القوى التي تدّعي تمثيل اليسار والديمقراطية، بينما تغازل ذات البنية القمعية اليمينية التي أجهضت الديمقراطية، وأشعلت الحرب، وتحرق البلاد اليوم باسم “السيادة”!
ولا أعرف ما الذي يعنيه بيان الحزب حين يُحذّر من “تدخّل خارجي يتحكّم في القرار الوطني”! أين هي السيادة الوطنية، والستالينية الروسية الجديدة تُقيم القواعد العسكرية على سواحل البحر الأحمر، وتنهب الذهب والمعادن الأخرى، متحالفة مع الأوليغارشية العسكرية/الإسلامية؟ أليس القرار الوطني، منذ الانقلاب الزاحف على حكم الشعب في أكتوبر 2021، مختطفًا؟ ذلك الانقلاب الذي قابله الحزب بصمتٍ مدوٍّ! وأليس القرار، اليوم، مختطفًا من قِبل العسكر، ومن المليشيات المتناسلة يوميًا، ومن كتائب الإسلاميين ومليشياتهم، وجميعها تقف خلفها أجندات إقليمية؟
ثم أسأل: كيف لحزبٍ يدّعي الدفاع عن الشعب أن يرفض أداة ضغط دولية قد تكون الوحيدة القادرة على ردع استخدام الأسلحة الكيميائية ضد هذا الشعب؟!
المؤسف أن هذه السذاجة الخطابية ليست نتاج لحظة عابرة، بل امتداد لخطاب سياسي بالٍ ومتهالك، لفظه حتى أصحابه في منبعه. ومع ذلك، لا يزال الحزب الشيوعي السوداني يواظب، دون أدنى خجل، على حراسة أفكاره البالية، وقد أفرز ذلك عقلًا سياسيًا عدميًا لم يغادر مربع الستينيات، لا يزال يرى العالم من خلال ثنائيات الحرب الباردة: إمبريالية/وطنية، تدخل أجنبي/سيادة، من دون أدنى قراءة ومراجعة للتحولات الفكرية والسياسية والاقتصادية الكبرى التي شهدها العالم، بل ومن دون اعتبار للتحوّلات العميقة التي عرفها السودان نفسه، ولا للواقع المعقّد الذي أفرزته الحروب الداخلية الطاحنة، والتي أبادت جماعات سكانية بأكملها في واحدة من أفظع الإبادات الجماعية في تاريخ العالم الحديث!
إن الشعب السوداني، الذي يرزح تحت نيران الحرب ويدفن أبناءه تحت تراب الأسلحة المحرَّمة، لا يحتاج إلى دروس في “الاستقلال الوطني”، ولا يعنيه كثيرًا إنْ كانت العقوبات صادرة من واشنطن أو من لاهاي، بقدر ما يعنيه أن تكون هناك عدالة تردع القاتل. ومن لا يرى في استخدام الأسلحة الكيميائية سوى ذريعة للتدخّل، فقد تخلّى عن الإنسانية قبل أن يتخلّى عن السياسة.
لقد آن لهذا الخطاب المتخشّب أن يُدفن، وأن يُقال بصراحة وبصوت عالٍ: من لا يقف في وجه الجريمة، فهو يقف معها، ومن يحاول تمييعها وطمس معالمها: مجرم، وخائن.