بقلم: فاطمة لقاوة
في ظل التدهور المتسارع الذي يعيشه السودان منذ اندلاع حرب 15 أبريل، يبدو أن معركة استرداد الوطن لم تعد تحتمل المزيد من الترف الفكري أو الاصطفاف العقائدي والمناطقي.
إن الانشغال بقضايا الهوية
والشكلانية الدستورية في هذا التوقيت ليس فقط مضيعة للزمن الثمين، بل يُعد نوعًا من الإنكار الجماعي لحجم الكارثة الإنسانية التي يعيشها السودانيون يوميًا.
الشعب السوداني اليوم لا يبحث عن دولة تُعبر عن مزاج نخبة سياسية أو طبقة أيديولوجية، بل يطلب أبسط مقومات الحياة: الأمن، والغذاء، والدواء، والمأوى.
المواطن السوداني لم يعد يهمه من يحكم بقدر ما يهمه كيف يُحكم،وهو سؤال عميق يختبر ضمير القوى السياسية والمسلحة معًا.
إن الوصول إلى نهاية للحرب لا يمكن أن يُبنى على خطابات مجاملة أو تنازلات شكلية، فإما هبة شعبية حقيقية تُطيح ببقايا النظام القديم ومليشياته في بورتسودان، وإما تفاوض مسؤول يضع الكيزان وأذرعهم التي سرقت إسم الجيش السوداني خارج معادلة الحكم تمامًا.
وهنا تبرز بندقية الدعم السريع-رغم تحفظات بعض القوى السياسية و المدنية التي ترتبط مصالحها بالدولة المركزية العميقة -باعتبارها القوة المسلحة الوحيدة التي تصدت لمشروع إعادة إنتاج الدولة الأمنية الإسلاموية، وظلت تقاتل لعامها الثالث دون غطاء دولي أو اعتراف كافٍ من بعض القوى المدنية.
إن توقيع إعلان سياسي تأسيسي في هذا الظرف الحرج هو بمثابة صدمة إيجابية في المشهد السياسي السوداني، حيث ظل هذا البلد لعقود رهينة المواثيق النخبوية التي لا تنبع من الواقع ولا تحترم حقيقته الاجتماعية.
إنه إعلان يُبشّر بإعادة تعريف
السلطة بعيدًا عن هيمنة العسكر أو تسلط النخب، وهو ما يثير حفيظة البعض، ويدفع آخرين للغرق في جدليات الهوية والدين والعلمانية في غير موضعها.
لكن المعركة ليست فكرية في الأساس، بل اجتماعية وأمنية وإنسانية،والنقاش الفكري يجب أن يُرحّل إلى فضاء آمن، تُضمن فيه الحريات أولًا، وتُستعاد فيه الدولة ثانيًا.
في خضم الحديث عن ما بدر من الرائد شيراز في أحد مقاطع الفيديو، حين قامت بإتلاف ما قيل إنه “خمر” تابع لإحدى النساء الفقيرات، نجد أن الحملة ضدها تنطلق من ذات المنطق الذي رفض في السابق قرارات النميري في الثمانينات حين سعى لمعاقبة الضعفاء بشعارات الفضيلة، وترك تجار الدين والثروات ينعمون بالإفلات من العقاب،وهذا الأمر مرفوض مبدأ ويجب إخضاع كل لجنة محاربة الظواهر السالبة لتحقيق فوري وخروج رئيس الإدارة المدنية لولاية غرب كردفان للملأ موضحا ومعتذرا!هل دافعت شيراز عن قانون؟ أم اجتهدت فأخطأت؟ أم كان هناك وجه آخر للقصة لم يُروَ بعد؟
ما نحتاجه اليوم هو خطاب عقلاني متزن يعيد الاعتبار للفقراء ويبحث معهم عن حلول، لا أن يُضافوا لقائمة ضحايا التنمر الأخلاقي و”السلفنة” السياسية،فالرسول عليه الصلاة و السلام، وهو قمة الرحمة، نُهي أن يكون فظًا غليظ القلب، فكيف بمن لا يملك إلا سلطة السلاح أن يتطاول على أرزاق النساء دون تحقيق أو بدائل؟
ما لم يتم اجتثاث المشروع السياسي الفاسد الذي تتغذى عليه
“شياطين بورتسودان” من قوى الكيزان، والفلول، و قادة الجيش المتكلسين، فلن يرى السودانيون النور مهما بلغت أصوات النخب نقاشًا وجدالًا.
إنه وقت العمل السياسي الجاد، المؤسسي، القائم على الكفاءة لا على الولاءات،وقت وضع أسس العدالة الانتقالية، لا إنتاج خطاب الكراهية و استرداد الوطن لا تعميق الانقسامات.
لا وقت للجدل الآن،فالوطن يُذبح،
والناس تُقتل جوعًا ونزوحًا.
إن أردنا دولة حقيقية، فليبدأ العمل الآن،أما النقاشات الكبرى — الدستور، الهوية، والنماذج الفلسفية — فمكانها الطبيعي هو الغد، حين تُبنى الدولة ويُؤمن الناس على حياتهم.
ولنا عودة بإذن الله
الأحد،١٥يونيو/٢٠٢٥م