خالد كودي
في بيانها الصادر في 1 أغسطس 2025، تعلن ما تُعرف بـ”قوة البراء بن مالك” عن نفسها بعبارات توحي بالوطنية والانضباط، لكنها تحمل في جوفها عودة مقلقة لذاكرة سودانية دامية. فخلف مفردات مثل “حماية الجبهة الداخلية” و”الذود عن الوطن والدين”، يتوارى خطاب مألوف يعيد تدوير أكثر الأفكار تدميرًا في تاريخ السودان الحديث: الدولة الجهادية ذات الرسالة العقائدية، التي صنّفت مواطنيها بين مؤمنين وكفار، وخاضت باسم الشريعة الاسلامية حربًا على الجغرافيا والبشر، شرعنت فيها الذبح، والبقر، والاغتصاب، والتطهير، تحت راية “الجهاد”.
إنها نسخة محدثة من كتائب الجهاد و” الغزوات و… ساحات الفداء”، تخرج اليوم هذه الكتيبة من عباءة التاريخ لتغرس خنجرها في جسد وطن لم يلتئم.
هذا البيان ليس معزولًا، بل يأتي في سياق استعادة منهج كتائب الظل، والدفاع الشعبي، وكتائب “الفتح” و”البنبان المرصوص” و”الزبير بن العوام”… الخ… التي عرفها السودانيون إبان حقبة الإنقاذ، وارتبطت بمجازر الجنوب وجبال النوبة والنيل الأزرق ودارفور.
أولاً: من “البراء بن مالك” إلى “الدفاع الشعبي”… استدعاء أسماء الدم
إن اختيار اسم “البراء بن مالك” ليس بريئًا، بل مشحونًا بتراث فقه الحرب الإسلامية التكفيرية، التي بُنيت في السودان على قاعدة دينية تعتبر معارضي المشروع الإسلامي “كفارًا”، يجوز قتالهم باسم الجهاد، تمامًا كما حدث خلال حرب الجنوب:
– البراء بن مالك هو الصحابي الذي نُقل عنه أنه قال: “يا رب، أقسمت عليك أن تُقتلني اليوم وتدخلني الجنة.”
– هذه النزعة “الانتحارية” التي تسعى للموت لا للحياة، استُخدمت لتغذية عقيدة استشهادية قتلت مئات الشباب في الجنوب خلال التسعينيات، حين أُلقي بهم في “ساحات الفداء”
وكما كتب الراحل الأستاذ محمود محمد طه:
“الدولة الدينية تقتل باسم الرب، وتشرعن باسم الشريعة ما حرّمه الله من ظلم الإنسان.”
ثانيًا: من كتائب البشير إلى كتائب البرهان… إعادة تدوير للمشروع نفسه
بيان “قوة البراء بن مالك” لا يُقدّم جديدًا، بل يستدعي لغة مألوفة من أرشيف العنف الأيديولوجي في السودان: “لسنا ميليشيا… نحن وطنيون منضبطون نحمي المدنيين”.
لكن هذه الصيغة ليست إلا صدى لما كانت تردده كتائب الدفاع الشعبي في تسعينيات نظام الإنقاذ، حين كانت الجرائم تُرتكب باسم الله، والمواطنون يُصنَّفون بين مؤمن ومارق، وتُذبح الأسرى، وتُبقر بطون النساء في جبال النوبة، وتُحرق القرى في الجنوب، تحت لافتة “الجهاد المقدس.”
قوة “البراء” اليوم ليست انحرافًا فرديًا، بل امتدادًا عضوياً لفكر الدولة العقائدية التي دعمت انقلاب 1989، ووفرت غطاءً دينيًا لما يلي:
– جرائم حرب ممنهجة في دارفور كما وثّق تقرير لجنة التحقيق الدولية التابعة للأمم المتحدة عام 2004؛
– تطهير عرقي واغتصاب جماعي كما حدث في مجزرة تابت سنة 2014؛
– موت المئات من الأطفال واليافعين في معسكرات التدريب الديني القسري، الذين خُيّروا بين القتال أو اعتناق الإسلام الرسمي؛
– الاستئصال المنهجي للتنوع الديني والثقافي تحت فتاوى صادرة عن مؤسسات الدولة الإسلامية في الخرطوم
إن “قوة البراء بن مالك” هي مجرد قناع محدث لذات الوحش القديم، يعود اليوم ليفرض على السودانيين جولة جديدة من التكبير قبل الذبح”، مع نفس الادعاء بأنه يفعل ذلك دفاعًا عن الوطن.”
ثالثًا: الكفار المواطنون… وعودة خطاب “الفتنة”
رغم الادعاء احتيالا بعدم “الانتماء الديني”، فإن البيان يفترض ضمنيًا أن هناك فتنة، وأن هذه “القوة” ستنحاز للثوابت. هذا يعني أن هناك “منحرفين” أو “كفارًا” يجب مقاومتهم، تمامًا كما استخدم فقه الجهاد إبان عهد البشير.
يقول إدوارد سعيد في كتابه “تغطية الإسلام”:
“حين تُقدم الحرب على أنها صراع بين الخير المطلق والشر المطلق، تُمحى إنسانية العدو ويُفتح الباب أمام المذابح.”
وهذا ما حصل فعلًا في جبال النوبة، حيث سُمّي الأهالي “عبدة الصليب” و “الكفار”، وفي الجنوب حيث اعتبرت الحرب “فتحًا إسلاميًا”
رابعًا: بين فانون وسعيد… حين يصبح المواطن هدفًا
كتب فرانز فانون في “معذبو الأرض” أن:
“أكثر الحروب دموية هي تلك التي تصف مواطني البلد الواحد بأنهم أعداء لله”
وفي السودان، حدث ذلك:
– تحول المواطنون من الجنوب وجبال النوبة ودارفور إلى “مرتدين” و”كفار”، وليس فقط معارضين سياسيين
– شُرّع ذبحهم، لا لأنهم يحملون السلاح، بل لأنهم خارج المشروع الديني–السياسي
– اليوم، تُعاد نفس اللغة، ولكن بلباس جديد اسمه “قوة البراء بن مالك”
خامسًا: الخطر الحقيقي… ليس البيان بل المشروع خلفه
تكمن خطورة هذا البيان في محاولة خداع السودانيين مرة أخرى عبر خطاب “الأمن والمواطنة والانضباط”، بينما يتم تجهيز المجتمع لقبول نسخة جديدة من الدولة الدينية – الفاشية، التي تعرف بالضبط من تقاتل.
– لا تقاتل الجوع أو الفقر
– لا تقاتل من قتل المتظاهرين في القيادة العامة
– بل تقاتل كل من يطالب بالعلمانية، والمساواة، وتقرير المصير، وبناء سودان جديد يليق بالضحايا
أخيرًا: حين يُرفع السلاح باسم الله، يُسفك الدم باسمه أيضًا
ما صدر عن “مليشيا البراء بن مالك” ليس إعلانًا لحسن النية، بل وثيقة دامغة تُثبت أن مشروع الإسلام السياسي الجهادي في السودان لم يُهزم بعد، بل يعيد إنتاج نفسه بأسماء جديدة، وأقنعة منضبطة ظاهرًا، لكنها محتالة، وتحمل في جوهرها نفس فقه الإقصاء وسيف التكفير.
إن من يقاتل تحت راية البراء بن مالك لا يمكنه أن يدّعي الحياد، لأن الراية ذاتها مشبعة بذاكرة الدم: من جبال النوبة إلى دارفور، من معسكرات التدريب الإجباري إلى بيوت الأشباح. المشروع لا يقوم على تنظيم عسكري فحسب، بل على فكرة تعتبر السوداني المختلف “كافرًا بالقوة”، ودمه مباح باسم “الدين.”
ولذلك، فإن التصدي لهذا التيار ليس فقط ضرورة سياسية، بل واجب أخلاقي وثقافي وتاريخي – دفاعًا عن تعددية هذا الوطن، وحق السودانيين في أن يبنوا دولتهم بلا سيفٍ على الرقاب ولا قرآنٍ يوظَّف للتكفير.
وكما قال الفيلسوف الجزائري سعيد بوكرامي:
“حين يعود القتلة بلباس جديد، لا تختبر نواياهم، بل استحضر ذاكرة سكاكينهم.”
لقد وعى السودانيون الدرس، ومن لم يسقط في حفرة الدولة الإسلامية الأولى، لن يُخدع بنسختها المُحدّثة.
الجهاد لا يُعاد… فوق أنقاض وطنٍ يحاول أن يولد من رماده، لا من رمح جلّاده.
النضال مستمر والنصر اكيد.