ليس غريباً أن تكون الكلمات أكثر خطورة من الرصاص حين تنفلت من أفواه الحلفاء.
هذا ما فعله رئيس حركة تحرير السودان، مني أركو مناوي، الذي حين وجد نفسه واقفاً على جمر التحالفات الملتبسة، قام بتوجيه سهامه هذه المرة إلى بورتسودان، حيث يجلس الفريق عبد الفتاح البرهان، محاطاً بمستشارين ورموز نظام بائد، يعيدون تشكيل البلاد تحت غطاء “الشرعية”.
هناك، كما قال، من يرى أن تحرير الخرطوم والجزيرة كافٍ لبسط الحكم… أما ما تبقّى من السودان، فمجرد عبء جغرافي، وأن دارفور ستُترك لقدرها.
في الأيام الماضية، بدا مناوي كأنه يتكلم من منطقة ثالثة: لا هو في حضن الجيش، ولا في خندق الدعم السريع، بل في فراغٍ مرعب تشكّل بعد أن فُقدت الثقة، وتاهت البوصلة.
تحدّث عن تراجع الاهتمام بالفاشر بعد ما عُرف بتحرير الخرطوم والجزيرة. وها هو اليوم يتحدث عن مسؤول كبير يرى أن الحرب خارج الخرطوم لا تستحق عناء التفكير.
هكذا إذن. تنبّه “حاكم دارفور” إلى أن ما بعد 15 أبريل 2023، ليس سوى تمهيد لهندسةٍ تُقسّم البلاد إلى “أولوية” و”هامش”، إلى عاصمة تستحق النجاة، وأطراف تصلح للموت.
قالها بمرارة من يستشعر الخداع: “تلقّيت اتصالاً من سفير دولة كبرى في بداية الحرب، يسألني عن رأيي في تكوين ثلاث حكومات في السودان”. لم يكن الاتصال مجرد فضول دبلوماسي، بل، كما فهم مناوي، علامة على خطة تتقدّم بهدوء… تماماً كما تتقدم الخيانة.
الحرب خلقت تحالفات… والتحالفات خلقت خيانات. الحركات المسلحة التي تحالفت مع الجيش، ودخلت الحرب في صفّه، على وعد “دولة جديدة” ومناصب لا يُعلى عليها، وجدت نفسها أمام واقع يتآكل فيه الحلم، وتتقدمه خُطط لم تُكتب في الفاشر ولا في كادوقلي… بل على مكاتب في الخارج، على طاولات تُصمم فيها “الدويلات” و”الأنظمة الوظيفية”، حيث لا تُرسم الحدود الجديدة بالحبر، بل بالدم، وأحياناً بالمكر والخداع.
مناوي لا يملك صراحة الجنرال، ولا غموض المتمرد. إنه، في نظر مؤيديه، ابن التجربة المُرّة. من معارك دارفور إلى مقاعد أبوجا، من اختبارات السلطة في الخرطوم إلى نكسة التحالفات في الحرب الأخيرة، ظل صوته متأرجحاً بين الانتماء والخذلان.
لكن عندما يقول إن هناك ثلاث حكومات يُخطط لها، فإننا لا نسمع سياسياً من دارفور يشتكي… بل نسمع طبول الانقسام تدق، ونرى الأشباح التي كانت تتحدث عن “السودان المفيد” وقد خرجت من القبور. (هل تتذكرون مثلث حمدي؟)
خلف كلمات مناوي المتوترة، يختبئ سؤال مرعب: هل تُركت الحركات المسلحة لتسقط وحدها؟. ففي السياسة، كما في الحرب، لا أحد يحب الحليف الذي انتهت صلاحيته.
هذا ما قد تكون فهمته الحركات المسلحة، متأخرة، من طريقة تعامل قيادة الجيش معها، خصوصاً بعد تصريحات البرهان التي طالب فيها هذه القوات مغادرة الخرطوم، وكأنها ضيف ثقيل، أتمَّ مهمته وعليه أن يغادر الصالة.
هذا ليس مجرد انزعاج من تهميش الفاشر، بل إنذار وجودي: إن سُحب الغطاء، فمن يضمن البقاء؟ ومن سيحمي هذه القوات المنتشرة في مواقع متقطعة، والتي دخلت حرب 15 أبريل على وعدٍ بشراكة، لا بصفقة منتهية الصلاحية؟
الأكثر خطورة، هو ما لمح إليه مناوي قبل أيام، حين قال إنهم لا يمانعون فتح قنوات مع قوات الدعم السريع. هذا ليس فقط تغييراً في الاتجاه، بل قفزة نحو المجهول. فمن شأن هذا التلميح أن يُعيد تشكيل خريطة الولاءات في غرب السودان، وربما يُشعل حرباً داخل الحرب، ويُقنِّن انهيار ما تبقّى من الجبهة الواحدة في وجه حميدتي.
فهل نحن أمام لحظة فارقة تعيد الحركات حساباتها؟
هل تستجيب للمذلة، بالإنتقال إلى الضفة الأخرى؟
وهل يقبل حميدتي، المنتشي بانتصاراته في الغرب، أن يتحالف مع من قاتلوه بالأمس؟
إنه ميزان لا يرحم: البرهان يضغط لتقليم أظافر حلفائه… والدعم السريع يراقب ويغري ويصطاد.
وفي المنتصف، تقف الحركات، كمن حضر مأدبة، ثم اكتشف أنه هو قائمة الطعام.
الاحتمالات كلها مفتوحة، لكن الثابت الوحيد هو أن السودان، الذي كان يُحكم من عاصمته، بات يُنهش من أطرافه. وأن دارفور التي لطالما دُفنت في الرماد، قد تُصبح أرض التحالفات المؤقتة، والصفقات المريرة، والجغرافيا القاتلة.
هل بدأت الحرب تأكل أبناءها؟
أم أن أبناءها بدأوا يتبادلون أماكنهم على مائدة الذئاب؟
تجنيد الأطفال معركة الكرامة المزعومة مابين تركيا وأبوقعود والجلابة وعرب ظوط
بقلم/ فضل السيد مأمون الحمري شغلت ابواق الحركة الاسلامية والمسيطرة على مقاليد السلطة فى السودان عقب انقلاب 25 اكتوبر فى...