عمر البشاري
هذا المقال اساسي في فهم أزمة المجتمعات السودانية وحربها الأهلية القائمة الآن ويمكنه ان يشكل مدخل للخروج المرتب العقلاني منها
لو أن الأمور تدار بالفكرة والتدبر والعقلانية اللازمة … ولا تفرض بفوهات البنادق أو يستسلم الناس لاقدارهم منتظرين ما تسفر عنه الظروف بعد إنجلاء غبار المعارك
وتكشف تداخلات العواطف والمصالح المربك للرؤى المشوش للافكار اثنائها.
فالدول بالتعريف القانوني هي شرعية احتكار العنف والدولة سلطة تفرض ارادتها بالقهر على شعب ما أو شعوب في نطاقٍ جغرافيا ما، ولفعل ذلك يلزمها أجهزة عنف من شرطة وجيش بقوة كافية للنفاذ بارادتها الى الواقع فيما يعرف بالسيادة … ولكي تكون قوية ينبغي أن تكون عادلة متقيدة بحكم القانون…ويتوفر لديها من المؤسسات المستقلة القادرة على الحكم وعلى التقاضي والفصل في الخصومات بين الأفراد والجماعات والأجهزة.
ففيبر يرى أن البيروقراطيات العقلانية العسكرية والمدنية هي أساس إدارة الدول والمجتمعات … ومعها الأساطير المعقلنة لها مثل البروتستانية التي عقلنت الدين وصولا الي الديمقراطية والتداول السلمي للسلطة كعقلنة لممارسة السياسة…
وجيشنا ومعه خدمتنا المدنية افتقدا الالتزام بقواعد البيروقراطية في إدارة الخدمة العامة التي تعتمد تدرج السلطة حسب الرتبة والمسؤولية حسب الموقع والترقي حسب الجدارة والكفاءة والقدرات المهنية…
فأصبح القبول في الكلية الحربية وحتى الشرطة والأجهزة الأمنية ومثله الترقي والتقدم في الجيش وفيها حسب الانتماء الجهوي منذ وقت مبكر وايدولوجي في بداية الإنقاذ في عشريتها الأولى ثم جهوي عشائري في ما تبقى منها…
فأحدث ذلك شرخا في بنيته الهيكلية التي أصبحت ذات قاعدة من الجنود وضباط الصف مكونة من أفراد ينتمون إلى المجاميع المهمشة المعزولة عن الامتيازات الناتجة عن التراتبيات الاجتماعية المدمجة في التكوين والنشأة التاريخية المعاصرة والحديثة للدولة السودانية وتعرض صغار الجند هؤلاء للأهمال وسوء شروط الخدمة بما لا يتوافق مع عظم وأهمية الدور الذي يقومون به.. فضلا عن اهمال تدريبهم وتأهيلهم وترقية ورفع قدراتهم القتالية وتوفير سبل العيش الكريم لهم ومن يعولون فتعرضوا لذل ومهانة حطت من قدرهم في نظر انفسهم والناس
ومن ناحية أخرى تركت قيادة الجيش التخصصية التي تقتضيها بيروقراطية فيبرو ما تتطلبه من الحنكة في إدارة الشأن الأمني والعسكري فأهملت حدود الدولة وإقليمها خارجيا فتغول عليه الجوار وانغمست في السياسة والتجارة والاقتصاد… ومن أخرى في حروب بينية في أطراف الدولة وأقاليمها المهمشة… وضد شعوبها…
للسبيين أعلاه وغيرهما أصاب الجيش الوهن والترهل والضعف في أداء وظائفه المخولة له بالقانون والشرعية المتفق عليها وتراخت قبضته على الدولة والحكم الذي استولى عليه بحكم استغلاله للعنف القانوني الشرعي الذي خول له في غير محله…خارج الشرعية والقانون الواجب عليه التقيد به.
وبدلا من إصلاح شأنه بوسائل عقلانية نفعية تتماشى والبني الحديثة للدول المعاصرة لجأ منحدرا إلى تراكيب اجتماعية تقليدية غير حداثية وهي القبائل واستغلال الخصائص الاجتماعية للتضامن الميكانيكي بين عضويتها حسب تعابير دوركاهيم فأنشأ أكبر مليشيات شبه عسكرية لتقوم عنه بإنجاز مهام الدولة في ضبط الأمن وحفظ السلم بقمع التمردات المتعاظمة عليه لفساده وضعف هياكله وخراب بنيته التي أشارت اليها رشا هنا وحللنا أسبابها سياسيا واجتماعيا…مستفيدا مما في هذه التراكيب الاجتماعية من خاصية التضامن الميكانيكي التي تمنحها زخما وحيوية في الأعمال القتالية والعسكرية فأضعف بها الحركات المسلحة في دارفور لا سيما العدل والمساواة في واقعة قوز دنقو المشهودة…
ومن أبرز عيوب التضامن الميكانيكي للمجاميع القبلية المعسكرة أنه عملية آلية غير عقلانية وتقليدية وقبل حداثية تعتمد على روابط القربى والدم وتحت احسن الفروض على الانتماء للجماعة القبلية العشائرية بلا مساءلة ولا سؤال ولو تعارض هذا الانتماء مع مصلحة الفرد والجماعة خارج القبيلة على مستوى النطاق الجغرافي الذي قد يكون اقليم او دولة.. وقابليتها للانشطار والتشظي والايغال في النزاعات البينية متى ما انتفت التحديات والمهددات الخارجية التي تحثها على التضامن وتعمل على تحقيق تماسكها.
وهنا ارتكب الجيش تمثله قيادته الخطأ المميت في تدمير اساس الدولة بتخليه باراداته وعن سابق عمد واصرار عن حقه المفوض له من الأمة والشعب المفترض في امتياز احتكار العنف لصالح الجماعة الكبرى التي تعبر الدولة عن مصالحها تحقيقا للأمن العام وضبطا للسلم الممهد للاستقرار والنماء…والعافية ورغد العيش والحرية وكريم الحياة.
وكسر احتكاره العنف بهذه الممارسة هو تحطيم لأساس الدولة بالتعريف الذي سلف وصدرنا به المقال….
وهو ما دعا رشا للكلام عن حله كواجب وطني تأخر كثيرا وقاد بالضرورة إلى كارثة الحرب وما تلاها من انهيار وتحلل للدولة بذاتها…
ولكن السؤال الذي يطرح نفسه باحثا عن إجابة هو :-
هل يصلح الدعم السريع لأن يحل محل الجيش
ويصبح بديلا له؟
اعتقد أن الإجابة هي لا صريحة وواضحة كما يبين من تركيبه وبنيته الناتجة عن ظرف استثنائي هو بذاته عرضي…وغير مدروس بعناية تستحقها وتستوجبها الإدارة العقلانية الواعية الرشيدة للدول كأرقي منظومات الاجتماع البشري..فبداهة وجود المليشيات المسلحة ذات الطابع القبلي ليس بوسعه ملء الفراغ الذي تتركه الجيوش المهنية في الدول الحديثة لأن وجود المليشيات نفسه يتعارض مع بنية الدولة الحديثة بل يعد من أكبر مهددات وجودها.
و اعتقد حتى قيادة الدعم السريع ومشايعوه السياسيون لم يصرحوا برغبتهم في تحطيم الجيش نهائيا وطرح انفسهم كبديل له انما لا زالت دعاوهم هي دعوة الشرفاء فيه الي تغليب المصلحة العامة وإيقاف الحرب والاعتراف بتلف الجيش وما ترتب عليه من خراب الدولة وتشتت الاجتماع وانهيار العمار السوداني بها…
والشروع في تأسيس جيش جديد منه والحركات المتحالفة معه والمحايدة ومن الدعم… يكون اساس دولة حديثة ويمارس مهامه التخصصية كما ينبغي تمهيدا لوضع لبنات راسخات للمؤسسات الدستورية والتنيفيذية والإدارية الأخرى فيها بما يحقق خروجنا من النفق الذي نحن فيه.
وعليه يصبح من الواضح أن الدعوة إلى حل الجيش ينبغي ألا تفسر كدعوة لاستمرار العنف والحرب إلى القضاء عليه والدولة وما يترتب على ذلك من فداحة المصاب والخسائر الإنسانية المدمرة التي يتعرض لها الشعب السوداني بقدر ما هي دعوة لوقف الحرب بداية من الاعتراف بأسبابها والدور الأصيل للجيش وقيادته فيها والاعتراف الشجاع لهذه القيادة عن هذا الدور وتحمل المسؤولية عنه بكل حكمة ووعي وأخلاق بدلا من التخفي خلف شعارات الكرامة الزائفة وركوب موجات العنف المهلك الذي يروج له ويحرض عليه أصحاب الغرض من الحرب والذي يعد هروبا والى الامام من مقابلة استحقاق الواجب السياسي التي يلقيها الزمان على كواهلهم وتكتب على صفحات سجلات ادوارهم في هذه المرحلة الحرجة والحساسة من تاريخ السودان.