منعم سليمان
في هذا اليوم، كان يُفترض أن تتزين الأرواح بأنوار السعادة، وأن تعانق القلوب فرح الطقوس المقدسة. فإذا بالعيد يطلّ من بين ركام البيوت ودموع الثكالى. لا يُسمع فيه تكبير العيد، بل ضجيج المدافع. ولا تُذبح فيه خراف الأضاحي، بل يُذبح الوطن على مائدة العسكر، وتُقطع رؤوس السودانيين، وتُجزّ رقابهم، وتُسلخ جلودهم بأيدي الميليشيات وكتائب الهوس الديني!
هكذا هو العيد في السودان هذا العام: ليس فرحًا مؤجَّلًا، بل خنجرٌ آخر في خاصرة وطنٍ يحتضر. بلادٌ كانت تتهيأ للشفاء الكامل، وبدأت تتلمّس خطى الاستقرار، تنظر إلى العالم بأمل، وتفتح نوافذها للحرية… فإذا بالرعديد اللئيم، عبد الفتاح البرهان، يتحالف مع أعداء السودان، من الخارج والداخل، ويغلقها بعنف. يُحوِّل الحلم إلى كابوس، مقرّرًا، بكل ما يملك من ضعة وخسّة، أن يبني نظامًا من الخراب، يكون امتدادًا لسنوات الكيزان المظلمة.
لقد مُنح هذا الخائن لحظةً نادرة لم يحظَ بها أحدٌ قبله؛ لحظة يستطيع فيها القائد أن يرتقي فوق الأطماع، ليُكتب اسمه في صفحات الخلود. لكنه، وكما هو دأب كل طاغيةٍ جبانٍ ودنيء، اختار أن يُسطّر اسمه لا في سجلات الأبطال، بل في مزابل الأنذال: خان العهد، وخذل الدماء، وسدّد طعنته في ظهر الثورة التي أنجبته من العدم واللاشيء.
وها هو خراج خيانته يتجلّى اليوم؛ فلا تهاني بين الناس، بل همسٌ حزين وآهات خوف، ودماء ودموع. من نجا من الرصاص والقنابل، التهمه الجوع. ومن نجا من الجوع، طاردته الأوبئة. ومن بقي، جلس على أطلال وطنٍ غادره الزمن، واستوطنه الجنون.
كم هو مفجعٌ أن يُصبح مصير أمةٍ عظيمة رهين قرار رجلٍ خائن وتافه، فاقد لأي رؤية، أو فضيلة، أو شرف. بلا خُلق، أو دين، أو تقاليد. رجلٌ لم يتأسَّ برؤيا إبراهيم، ولا بطاعة إسماعيل، ولا بمعنى الفداء، لتهزم روحه أهواءها. بل اختار أن يكون أدنى من (كبش) القصة، وأكثر حيوانية منه. انساق خلف رغباته الصغيرة، فذبح شعبه، ونحر وطنه من الوريد إلى الوريد، وفرق دمه لا بين القبائل فحسب، بل بين الأمم والدول.
نعم، يُكبّر السودانيون هذا اليوم كما سواهم، لكن تكبيراتهم مخنوقة. فهم المضحي والضحية في آن. يُذبحون على مرأى العالم، في صمتٍ يُرعب أكثر من الرصاص.
عيدٌ حزين، نعم، لكنه عظيم؛ عظَمه أن السودانيين قد جسّدوا الفداء بأسمى صوره الإنسانية. فدَوا حريتهم بأرواحهم، وحتماً سيخرجون من هذه المحنة أكثر منعة، وأشدّ شكيمة. فالسودان لا يموت، وإن ذُبح بألف خنجر، ألف مرة، فهو حيّ في ضمير شعبه، المحب للسلام والحرية. وهو الأجدر دوماً بالبقاء والخلود.
أما البرهان وكيزانه، فمكانهم الطبيعي مزابل التاريخ، بين أذلاء العصور.
وكل عام، نحن نُصرّ على أن نولد من جديد، أحرارًا، أعزاء، كما خلقنا الله.ر