في بورتسودان حيث تتكثف التناقضات وتتجسد رمزية السلطة في لحظة فراغ وطني شامل، تبدو النخبة وكأنها بدأت ترسم خطوطاً مغايرة لما عهدته الخرطوم من معايير توزيع السلطة والنفوذ ، ثمة عقل جديد ينمو في صمت، يتجاوز قاعدة الترضيات التي صنعت شلة القوات المشتركة، تلك المجموعة التي ورثت امتيازات الحرب لا لأنها امتلكت مشروعية سياسية أو كفاءة مهنية، بل لأنها كانت على مرمى بندقية أو في حضن تحالف عسكري مرحلي.

بورتسودان باعتبارها مركزاً إدارياً جديداً ومؤقتاً، تعيد اليوم تعريف السلطة على أسس مغايرة، لا تُبنى على الاصطفاف الأعمى، بل على الفاعلية والجدارة ، وفي هذا التوجه، تختار النخبة هناك طريقاً يبدو أكثر جذرية من العداء المباشر، فهو لا يشن حرباً ضد المشتركة بقدر ما يبني واقعاً لا يتسع لهم، واقعاً طُبِع على الكفاءة كمعيار وحيد، لا كزينة بل كخط دفاع رمزي ضد التكلس المؤسسي.
لكن وراء هذا التحول، تقف مفارقة أكبر استهبال النخبة ، تلك القدرة العجيبة على التذاكي، على تبني خطاب الحداثة وهي غارقة في أدوات الماضي ، فمن جهة، ترفع النخبة شعار “
الكفاءة، ومن جهة أخرى تُدار الصفقات من خلف الستار وفق نفس القواعد القديمة قواعد الولاء الخفي، والموازنات الجهوية، ومحاصصة الأصدقاء في عباءة التكنوقراط من الجغرافية او الحبل السري .
النخبة هنا تمارس نوعاً من الاستهبال السياسي، تُقصي شلة المشتركة لا لأنها لا تستحق، بل لأنها صارت عبئاً على مشروع التجميل الجديد، مشروع السلطة المؤدبة، سلطة الياقات البيضاء، لكن بروح الكيكة القديمة ، فالفصل بين الجنرال وبنطلونه ليس إصلاحاً، بل إعادة ترتيب الكراسي ذاتها بطريقة أكثر فخامة، لكنها لا تقل احتكاراً.
وفي لحظة كهذه لا يكون إعلان رفض القوات المشتركة فعلاً مباشراً، بل فعلاً أذكى إزاحتهم بالهدوء، وحرمانهم من التنفس في بيئة لا تعترف بغير المعيار الفني، وهي بيئة تم إعدادها بعناية ليُقصى منها كل من لا يمتلك شهادة أكاديمية أو صورة ناعمة في المشهد العام ، لكن من يضمن أن الكفاءة ليست مجرد قناع جديد للولاء القديم؟
فالنخبة التي تعلن اليوم أنها ضد شلل السلاح، هي ذاتها من ساومت الأمس على موائد الجنرالات ، وهي التي ترى في إدارة الدولة صفقة لا تختلف كثيراً عن تقاسم الغنائم، فقط بلغة مختلفة وبملابس أنيقة.
إن ما يحدث في بورتسودان ليس فقط إعادة توزيع للسلطة، بل إعادة إنتاج للكيكة نفسها، تحت إضاءة جديدة، ومن زاوية كاميرا مختلفة ، الكيكة التي كانت تُمنح لمن يملك السلاح أو القرب من الجنرال، يتم الآن تقطيعها بدعوى الكفاءة، لكن دون تغيير فعلي في الذهنية ، واللحظة السياسية هناك، رغم تميزها الظاهري، قد تكون قصيرة العمر إذا لم تتحول إلى قطيعة فعلية مع منطق النخبة المستهبل ، النخبة التي تجيد لبس وجوه متعددة، وتغلف أطماعها بلغة الحداثة والانتقال.
في نهاية المطاف لا نقول بورتسودان إنها ضد القوات المشتركة، لكنها تقول لسنا بحاجة إليهم ، وهذه وحدها قطيعة رمزية صاعقة، تسحب البساط من تحت من توهموا أن البندقية وحدها تمنحهم دوراً في الحكم، ما لم يصاحبها وعي ومشروع تحرر جذري ، أما من يظن أن النخبة قد تطهرت فعليه أن يتريث، لأن أدوات الاستهبال لا تزال تعمل ولكن بأناقة هذه المرة.