منعم سليمان
لا أحد يطلب الحرب عاقلًا، ولا أحد يرضى بمواصلة لهيبها، إلا مختلٌّ في حسّه أو مهووسٌ بنشوة الخراب.
ومنذ يومها الأول، وقفنا حيث تقف الضمائر الحيّة، بصف القوى المدنية الديمقراطية المطالِبة بوقف نزيف البلاد، ضد كل من رأى فيها طُهرًا أو غنيمة.
رفعوا شعارهم الأرعن: (بل بس)، يحسبونها نزهةً منسية أو فتحًا مقدّسًا، فإذا بها تعود لتلتهمهم في ذات المواضع التي ظنّوها حصونًا لا تُخرق.
وها هي نار الحرب تبلغ ركنًا مهمًّا من أركان إسلامهم السياسي: كتيبة البراء بن مالك.
أمس الأول، الثالث عشر من يوليو، كانت أم صميمة في شمال كردفان مسرحًا لعملية عسكرية دقيقة ومباغتة، نفّذتها وحدات خاصة من قوات الدعم السريع، ضد ما يُعرف بـ”متحرك الصياد”؛ ذلك التشكيل المركّب المكوَّن من كتائب الإسلاميين، وحركات المرتزقة المسلحة، وبعض المغضوب عليهم والضالّين من داخل الجيش.
لم تكن معركة طويلة، بل ضربة خاطفة، يبدو أنها محسوبة ومدروسة؛ ضُرب فيها الرأس لا الأطراف.
في اللحظة الأولى، سقط العميد، القائد العام للمتحرك، بنيران قنّاص، فتداعى بعده سائر المتحرك بالفناء والهروب ، وسقط عدد من كبار العقداء والمخططين العسكريين، بينهم مسؤول وحدة المسيّرات في المنطقة.
لكن الضربة الأعمق، والأكثر رمزية، كانت تلك التي وُجِّهت صوب كتيبة البراء بن مالك؛ فكل من يُقتل من جنود الجيش هم موتانا، وكل طلقة تُصيب أحدهم تصيب أكبادنا.
أما سقوط أفراد هذه الكتيبة التي طالما أُحيطت بهالة عقدية، وأُنيط بها تثبيت جبهة الإسلاميين داخل الجيش والوطن، فلا نفرح لموتهم، ولكننا لا نأسى عليهم؛ فقد اختاروا الدرب وأشعلوا الحرب، وما يأتيهم منها فهو طعام نارهم، فليتذوّقوه.
قُتل قائدها في المعركة هشام بيرم، أحد أبرز الوجوه التعبوية الجهادية، ومعه قُتل ما لا يقل عن 186 من عناصر الكتيبة، بحسب تقديرات غير رسمية، في ضربة عدّها مراقبون استهدافًا لخط الإمداد المعنوي والفكري، أكثر منها خسارة مادية فحسب.
لقد مثّلت البراء بن مالك تجسيدًا حيًّا لعسكرة العقيدة وتديين العسكر، وقد جاء هذا الاستهداف مركزًا، قاطعًا، أخرج التشكيل عن فاعليته، ومزّق رمزيته في نفوس مقاتليه قبل خصومه.
أما الحركات المسلحة المتحالفة معهم، بقدر نصيبها من المال والوظيفة، فقد بدت شاحبة الحضور، تُدفع إلى الخطوط الأمامية في دور أقرب للكمبارس العسكري، تتقدّم بحسب قرب قادتها من وزارة المعادن في بورتسودان، وتبتعد بقدر ابتعاد بريق الذهب.
ورغم إعلانها لاحقًا استعادة المنطقة بعد انسحاب الدعم السريع، فإن الكلفة البشرية والاستراتيجية التي تكبّدتها كانت فادحة، وفضحت ما في البنية الاستخباراتية من هشاشة.
ولكنهم ليسوا ممّن يُعَدّون!
فمن يأبه بمرتزقٍ إن عاش أو مات؟!
ربما تكون أم صميمة مجرد اسمٍ آخر على خارطة الحرب، لكنها تمثل تحوّلًا في مسارها، يستهدف البُنى الفكرية لا المواقع، الرموز لا الجنود المغرَّر بهم، الإرهاب القادم لا الجيش المُختطف.
والأهم أن معركة أم صميمة تمثّل لحظة انكسر فيها وهم العقيدة حين لبس البزة العسكرية، وسقطت راية كُتبت بغير اسم الوطن .. واحترق شعار كُتب عليه:
هراؤون.