في منعطف نادر من التاريخ السياسي السوداني ارتفعت أصوات الجماهير في نيالا لتصوغ لحظة سيادية كاملة المعنى والدلالة، لم يكن ما شهدته المدينة مجرد حشد جماهيري، بل كان إعلاناً فعلياً عن تحول ميزان السلطة، وعن ميلاد مفهوم جديد للشرعية لا يُستمد من الخرطوم ولا تمنحه موائد النخبة، بل تُنتجه الجماهير حين تُصبح مصدراً مباشراً للسلطة.
مليونية نيالا التي بايعت الجنرال محمد حمدان دقلو رئيساً للمجلس الرئاسي لحكومة السلام، لم تكن فعلاً هامشياً كما قد يحاول بعض المركزويين تصويره، بل كانت لحظة مؤسسة تُعيد تعريف السياسة والدولة، ومكان السلطة في السودان، كانت تعبيراً حياً عن فكرة أن الهامش لم يعد يطالب بنصيب في الوطن، بل أصبح يمارس فعلياً ما كان يُحظر عليه من المبادرة، القرار والقيادة.
ما حدث في نيالا أعاد إلى السطح ذاكرة وطنية دفينة، حين خرج من ذات المدينة التاريخية ابنها النائب عبد الرحمن دبكة بمقترح إعلان استقلال السودان، متحدياً مركزاً استعمارياً كان لا يرى في دارفور سوى فضاءً بعيداً، واليوم تعود نيالا لتقود لا لتلتحق ، لتعلن حكومة لا تُفرض من فوق بل تنبع من الأرض، من السياق الاجتماعي والثقافي والسياسي للناس الذين عاشوا مرارة الحرب ويعرفون ثمن السلام.
نيالا ليست مجازاً للهامش الجغرافي فقط بل هي رمز للهامش السياسي والاجتماعي الذي طالما صُمت عنه وقُمعت لغته، وتم تحجيم طموحه لكنها اليوم تتقدم الصفوف، لا تطلب إذناً، ولا تنتظر موافقة، في صوت الجماهير التي خرجت، ووجوه النساء والرجال والشباب الذين ملؤوا الساحات، تتجلى صورة السودان الذي يُراد له أن يولد من جديد، هذه المرة من الداخل من جذوره العميقة، لا من واجهاته الهشة.
ما يُميز لحظة نيالا ليس فقط كسر الاحتكار التاريخي للسلطة بل إعادة صياغة مفهوم الشرعية ذاته، فالدولة لم تعد فكرة تمثيل فوقي تُدار من نُخب ضيقة، بل باتت ترتبط بمدى تعبيرها عن الإرادة الجماهيرية وكل من يشكك في هذه الحقيقة عليه أن يُصغي جيداً لصوت نيالا، حيث لا تُلقى الخطب الجوفاء، بل يُعلن الناس موقفهم من خلال حضورهم الحي والفاعل.
إن ما جرى في نيالا يُؤشر إلى تحول استراتيجي في البنية السياسية السودانية، انزياح مركز الفعل السياسي من الخرطوم إلى تخوم السودان، حيث تختزن الذاكرة الجماعية الأمل والدم معاً، ومن دارفور ومن نيالا تحديداً يتدفق هذا الوعي الجديد بالدولة، لا بوصفها سلطة، بل بوصفها علاقة شرعية بين المجتمع والمؤسسات.
مليونية نيالا كانت لحظة وعي وولادة ليست نهاية لشيء، بل بداية لزمن سوداني مختلف، زمن تُصبح فيه الجماهير مصدراً للسلطة لا وقوداً لحروب النخبة، زمن تُكتب فيه الخرائط من الأسفل وتُعاد فيه صياغة العقود الاجتماعية على أساس الشراكة الحقيقية والعدالة التاريخية، والإرادة الشعبية.