(تقرير SPT – ترجمة الراكوبة)
يُعد السودان أحد أكبر الدول في إفريقيا من حيث إنتاج الذهب، حيث يوجد في 14 ولاية من أصل 18. وتتركز مناطق تعدين الذهب في ولايتي نهر النيل والشمالية، من وادي حلفا حتى عطبرة، بالإضافة إلى ولايات الشرق الثلاث، وأهمها ولاية البحر الأحمر، حيث يُعثر عليه بمحاذاة البحر الأحمر وعلى امتداد سلسلة الجبال الممتدة، وكذلك في ولاية النيل الأزرق. كما تنتشر مناجم الذهب في ولايات كردفان ودارفور الثمانية، التي تقع ضمن نطاق الحرب وخارج سيطرة الحكومة التابعة للجيش في بورتسودان، ولا يُعرف حتى الآن حجم التعدين هناك، أو ما إذا كان الإنتاج مستمرًا كما في السابق في ظل ظروف الحرب.
وفقًا للمعلومات الحكومية، يُقدَّر حجم الذهب المكتشف بـ 1550 طنًا، وهو رقم يشكك فيه العديد من الجيولوجيين، معتبرين أنه غير دقيق بسبب غياب المنهج العلمي في قطاع التعدين، حيث تسود الفوضى والعشوائية والفساد، مما يجعل من الصعب تحديد الحجم الفعلي للذهب المكتشف والإنتاج الفعلي منه حتى الآن بدقة.
🔺التعدين التقليدي:
بحسب الشركة السودانية للموارد المعدنية، وهي الذراع الرقابي الحكومي على إنتاج المعادن، فإن 80% من كمية الذهب المنتجة في البلاد يتم استخراجها بواسطة مُعدِّنين تقليديين، في حين تنتج الشركات 20%.
ويعمل المُعدِّنون التقليديون في ظروف بيئية عالية المخاطر، مستخدمين الزئبق السام والسيانيد، ويعتمدون على العمل المأجور في استخراج الصخور التي تحتوي على كميات ضئيلة من الذهب يتم طحنها باستخدام المطاحن لاستخراج المعدن النفيس. وتُستخرج هذه الصخور من آبار تُحدَّد مواقعها باستخدام أجهزة كشف المعادن التي ترصد وجود الذهب في المنطقة.
ومع الشكوك التي تحيط بدقة البيانات الصادرة عن الشركة الحكومية الرقابية، هناك تقديرات عديدة تشير إلى أن عدد العاملين في التعدين الشعبي (التقليدي) يبلغ نحو مليوني سوداني، وربما يكون الرقم الفعلي للإنتاج أكبر من ذلك، خاصة في ظل غياب الشركات العالمية المتخصصة. ويعود ذلك إلى سيطرة القوات العسكرية ومحاولتها احتكار الذهب، إضافة إلى الفساد المستشري في هذا القطاع، مما جعل القوانين غير جاذبة للشركات العالمية للدخول إلى هذا السوق الكبير، فضلاً عن غياب الاستقرار السياسي والأمني والاقتصادي.
ومع ذلك، هناك بعض الشركات غير السودانية التي تعمل في هذا القطاع، وغالبًا ما تكون مرتبطة، بشكل مباشر أو غير مباشر، ببعض المتنفذين من القيادات العسكرية. ولا تزال شركات من ثلاث دول تنشط في التعدين، وهي: شركة ألاينس وشركة كوش، وهما شركتان روسيتان، إضافة إلى مجموعة مناجم للتعدين المغربية، وكذلك شركة أورشاب الأردنية. وجميع هذه الشركات تعمل في مناطق تخضع لسيطرة الجيش، وتحديدًا بين ولايات الشمال والبحر الأحمر.
🔺لغز عائدات الذهب:
كشفت الشركة السودانية للموارد المعدنية، في 24 فبراير الماضي، عن ارتفاع إنتاج السودان من الذهب إلى 65 طناً في عام 2024، مقارنة بـ34.5 طناً في عام 2022، العام الذي سبق الحرب، أي بزيادة بلغت 88.4%. وقالت الشركة إن العائدات بلغت 1.6 مليار دولار أمريكي، مقارنة بـ2.02 مليار دولار في عام 2022، أي بانخفاض بنسبة 26.3%.
كان الأمر بمثابة صدمة لكل من اطّلع على بيانات الشركة وعائداتها.
وقالت مصادر عاملة في قطاع التعدين في بورتسودان، طلبت عدم الإفصاح عن هويتها، إن ما أعلنته الشركة يكشف حجم الفساد والتردي الذي عمّ مختلف مناحي الحياة بعد الحرب.
وأبدى خبراء ومراقبون دهشتهم من أن 65 طناً من الذهب في عام 2024 حققت عائدات بلغت 1.6 مليار دولار، بينما 34.5 طناً في عام 2022 كانت عائداتها 2.02 مليار دولار، علماً بأن سعر الذهب ارتفع بنسبة 30% مقارنة بعام 2022.
وقال صاحب شركة تعدين إنه وفقاً لمتوسط أسعار الذهب في عام 2024، فإن قيمة 65 طناً من الذهب يجب أن تكون نحو 3.9 مليار دولار.
وبين 1.6 مليار دولار التي أعلنتها شركة الموارد المعدنية، و3.9 مليار دولار، وهي القيمة الحقيقية لكمية الذهب المعلنة وفقاً لأسعار السوق العالمي، يبقى السؤال: أين ذهبت كل هذه الأموال؟
🔺2.3 مليار دولار مفقودة
لم تقدِّم الشركة تفسيرًا لهذا اللغز أو توضح التناقض الصارخ في بياناتها، بل اكتفت بتكرار تصريحات متباهية حول سياساتها التي أدت إلى زيادة الإنتاج. حيث قال محمد طاهر عمر، المدير العام للشركة، في تصريحات صحفية، إن زيادة الإنتاج جاءت نتيجة خفض الرسوم التي كانت تفرضها الدولة على التعدين التقليدي من 28% إلى 20%، وعلى الشركات إلى 18%.
وأفادت مصادر حكومية موثوقة من بورتسودان بأن الفرق بين العائدات التي أعلنتها شركة الموارد المعدنية والعائدات الحقيقية للذهب ذهب إلى الجيش، وهو يشمل حصيلة الرسوم التي يدفعها المعدِّنون التقليديون والشركات كإتاوات لصالح الحكومة المالكة للأرض، والتي تبلغ 28% من الإنتاج. إضافة إلى ذلك، يعمل الجيش في تجارة الذهب عبر التعدين المباشر، حيث يمتلك عددًا من المناجم، إلى جانب شرائه الذهب من المعدِّنين، وهو ما يمثل المبلغ المفقود بين العائدات المعلنة والقيمة الحقيقية للذهب.
وقال مصدر عسكري مقرَّب إن الجيش أبرم عقودًا لشراء أسلحة وطائرات مسيَّرة، بالإضافة إلى مقاتلات من طراز J-10C من الصين وطائرات Su-57 من روسيا، موضحًا أن قيمة هذه الصفقة تعادل تقريبًا المبلغ المفقود، وقد تم الاتفاق على دفع ثمنها ذهبًا.
ويتطابق حديث المصدر العسكري مع تصريح منسوب للمدير العام للشركة السودانية للموارد المعدنية، منشور بموقع الجزيرة، حيث قال: “ساهمت الشركة في دعم المجهود الحربي، كما عززت دورها في التنمية الاقتصادية.”
🔺فساد وتهريب:
تحدثنا إلى معدنين وتجار ذهب ومراقبين، جميعهم أجمعوا على أن ما تعلنه شركة المعادن من إنتاج يمثل أقل من 25 إلى 30% من إجمالي الإنتاج، حيث تختفي النسبة الأكبر التي يتم إنتاجها وتذهب إلى التهريب، فيما قال مدير شركة الموارد المعدنية بان 48% من الذهب تمر خارج القنوات الرسمية.
ولكن عادل إبراهيم، وهو مهندس جيولوجي يحظى بالاحترام والمصداقية، عمل في عدة شركات عالمية خارج السودان قبل أن يعود ويُعين وزيرًا للطاقة في الحكومة المدنية الانتقالية بعد الثورة. وهو أيضًا خبير في مجال التعدين، قال لنا إنه يعتقد أن الذهب المهرب يشكل نسبة 60% من إجمالي الإنتاج.
وقال صاحب شركة ذهب، نتحفظ عن الإفصاح عن هويته، إن قيمة حصيلة إنتاج الذهب الحقيقية تصل إلى ما بين 4.5 إلى 5 مليار دولار سنويًا، تذهب ما بين 3 إلى 3.5 مليار دولار في التهريب والفساد وجيوب العسكر.
وصرح جبريل إبراهيم، وزير المالية الحالي، في جولة داخلية له في الولاية الشمالية بداية الأسبوع الماضي لصالح دعم المجهود الحربي، قائلاً إنه زار دولة جارة (ويقصد مصر) وعلم منهم أنهم حصلوا على 48 طنًا من الذهب السوداني عبر التهريب.
-والسؤال الذي يفرض نفسه هنا؛ إذا كان التهريب إلى مصر وحدها يبلغ 48 طنًا من الذهب في العام، فكم يا ترى كمية الذهب المهرب إلى الدول الأخرى؟
يظل الذهب أحد أهم مصادر تمويل الحرب في السودان، حيث يُباع لشراء الأسلحة وتمويل العمليات العسكرية، مما يطيل أمد الصراع ويعمّق معاناة المدنيين. وما دام هذا المورد الثمين يُستخدم لإذكاء العنف بدلًا من دعم الاستقرار والتنمية، فإن فرص إنهاء الحرب ستظل بعيدة المنال، وستبقى البلاد رهينة دوامة من الفساد والدمار.