العرب الدولية: عبدالمنعم همت
قبول البرهان لوساطة أردوغان خطوة نحو ما يمكن وصفه بـ”إعادة هيكلة المشهد السياسي السوداني”، والأيام القادمة ستكشف عما إذا كان هذا التحرك يمثل إستراتيجية مدروسة أم مجرد مناورة مؤقتة.
مبادرة اوردغان:
في خطوة تحمل أبعادًا متعددة وتداعيات محتملة على أكثر من صعيد، أعلن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان استعداده للتوسط بين السودان والإمارات خلال اتصال هاتفي مع قائد الجيش السوداني عبدالفتاح البرهان، هذه المبادرة وإن ظهرت كتحرك دبلوماسي يهدف إلى تقريب وجهات النظر بين طرفين على طرفي نقيض من الإسلام السياسي، فإنها في جوهرها تحرّك سياسي يعكس توازنات دقيقة يسعى البرهان إلى إتقانها في مواجهة تعقيدات الداخل والخارج.
تخفيف العزلة الدولية:
هذه الخطوة تُمكن قراءتها على مستويين؛ الأول هو السعي إلى تخفيف العزلة الدولية التي بدأ البرهان يشعر بها في ظل تقلّبات المواقف الإقليمية والدولية، والثاني يتعلق بإعادة ترتيب المشهد الداخلي السوداني عبر ما يمكن وصفه بـ”تحريك الخنادق”، وهو إستراتيجية تهدف إلى زعزعة مواقع الإسلاميين الراديكاليين سواء داخل المؤسسة العسكرية أو على مستوى التنظيمات السياسية والمدنية التي لا تزال تمتلك جذورًا عميقة في مفاصل الدولة.
ورطة البرهان والإسلاميين:
قبول البرهان بالوساطة التركية يضع الإسلاميين في معادلة معقّدة؛ من جهة، تركيا تمثل مركزًا تقليديّا لدعم الإسلاميين سياسيّا وماديّا، ومن جهة أخرى، أي تقارب بين السودان والإمارات عبر هذه الوساطة يُعد تهديدًا صريحًا للتيارات الإسلامية التي ترى في الإمارات قوة صلبة تعادي وجودها السياسي والفكري.
هذا “التقاطع الإستراتيجي” بين تركيا والإمارات يُنتج حالة من الارتباك داخل التيار الإسلامي السوداني، الذي يبدو اليوم أشبه بكتلة مفككة تعاني من تناقضاتها الداخلية. فالإسلاميون المقيمون في تركيا يجدون أنفسهم أمام معضلة وجودية، هل يدعمون مبادرة أردوغان التي قد تؤدي إلى تعزيز نفوذ الإمارات داخل السودان؟ أم يتخذون موقفًا معارضًا يتناقض مع اعتمادهم الكبير على أنقرة؟
وصف عبدالحي يوسف بأن البرهان “بلا دين”:
تصريحات عبدالحي يوسف الأخيرة، والتي وصف فيها البرهان بأنه “بلا دين”، تمثل انعكاسًا للغة التحريض التي تعتمدها التيارات الراديكالية لتثبيت شرعيتها أمام قواعدها. لكن هذه اللغة ذاتها قد تصبح سلاحًا ذا حدين إذا طُبّقت على الموقف من أردوغان. فالسؤال الذي يفرض نفسه: ما هو حكم التعامل مع وساطة يديرها قائد سياسي تتعارض مخرجاته مع أولوياتهم العقائدية؟
تفكيك مشروع الإسلام السياسي:
هذا “التباين العقائدي”، كما يمكن تسميته، لا يقتصر على السودان، بل يمتد إلى علاقة الإسلاميين بالدول الداعمة لهم. أي خطوة من البرهان نحو التقارب مع الإمارات قد تؤدي إلى تفكيك “شبكة التأييد الإقليمي”، والتي طالما كانت أحد أهم مصادر قوة الإسلاميين. هذه الشبكة باتت اليوم مهددة بما يمكن تسميته “التآكل المزدوج”، حيث تواجه ضغوطًا خارجية من دول مثل الإمارات التي تعمل على مواجهة وتفكيك مشروع الإسلام السياسي، وداخلية من انقسامات الرؤى والولاءات بين أعضائها.
الإمارات، بدورها، تواصل اتباع سياسة ثابتة يمكن وصفها بـ”الهندسة المجتمعية الإيجابية”، وهي رؤية تستند إلى تعزيز قيم الاعتدال والتسامح، في مقابل مواجهة تيارات الإسلام السياسي التي تعتبرها مصدر تهديد لاستقرار المجتمعات. هذه الرؤية تجعل من قبول البرهان للوساطة التركية خطوة محسوبة بدقة، فهو يدرك أن التقارب مع الإمارات يعني بالضرورة الدخول في مواجهة مفتوحة مع التيار الإسلامي، سواء داخل الجيش أو خارجه.
هذه الخطوة ليست فقط اختبارًا للبرهان، بل أيضًا لما يمكن تسميته “البنية العقائدية للإسلاميين”، وهي منظومة قائمة على وحدة الخطاب والتنظيم. إذا قبل الإسلاميون بهذه الوساطة، فإن ذلك يعني اعترافًا ضمنيًا بمشروعية إعادة ترتيب علاقتهم بالدول التي يعادونها أيديولوجيًا. وإذا رفضوها، فإنهم سيضعون أنفسهم في مواجهة مع تركيا، وهو ما قد يؤدي إلى تآكل علاقاتهم مع إحدى أبرز حواضنهم الإقليمية.
إقليميّا، يمكن النظر إلى هذا التحرك من زاوية “التوازنات الهشّة”، حيث تسعى تركيا إلى لعب دور الوسيط لتحقيق مكاسب سياسية ودبلوماسية، بينما قد تنظر الإمارات إلى هذه الوساطة كفرصة لتعزيز رؤيتها في مواجهة التطرف في المنطقة. بالنسبة إلى البرهان، فإن قبول الوساطة قد يكون محاولة لتوسيع خياراته الإستراتيجية في ظل التحديات التي يواجهها داخليّا وخارجيّا.
هذا السياق يُعيد تشكيل المشهد السوداني، حيث يتحول الإسلاميون من موقع الفاعل إلى موقع المُتفاعل مع التحولات الإقليمية. ما كان يُنظر إليه في السابق ككتلة واحدة بات اليوم في حالة من “الانفراط التنظيمي”، حيث تتزايد التناقضات بين مختلف التيارات الإسلامية حول كيفية التعامل مع التحديات الجديدة.
إعادة هيكلة المشهد السوداني:
يبدو أن قبول البرهان لوساطة أردوغان هو خطوة نحو ما يمكن وصفه بـ”إعادة هيكلة المشهد السياسي السوداني”. هذه الخطوة قد تكون بداية لتفكيك التنظيمات الإسلامية، لكنها في الوقت ذاته تفتح الباب لتحولات جديدة في علاقة السودان بمحيطه الإقليمي والدولي. الأيام القادمة ستكشف ما إذا كان هذا التحرك يمثل إستراتيجية مدروسة أم هو مجرد مناورة مؤقتة في سياق لعبة سياسية معقدة.