في سابقة خطيرة تعكس انحداراً أخلاقياً وسياسياً، خرجت إلى العلن في مدينة بورتسودان محاولات من قبل جماعة ضيقة ، تُعرف محلياً بـ”شلة بورتسودان” لصياغة ما يمكن تسميته بـ”قانون الوجوه الغريبة”، قانون غير مكتوب لكنه جارٍ تطبيقه بممارسات يومية، يستهدف أبناء دارفور وكردفان بصورة سافرة ، هذا السلوك لا يمثل فقط خرقاً لحقوق المواطنة، بل يُعيد إلى الواجهة ممارسات الفصل العنصري البغيض الذي تجاوزته الإنسانية منذ عقود.
لقد بات من المعتاد أن يُسأل القادم من الغرب عن هويته، وعن وجهته، وحتى عن غرض تنقله في السفر، وكأن حريته في الحركة داخل وطنه تُعد جريمة يجب تفسيرها ، إن ربط “التنقل في السفر” بلون البشرة أو ملامح الوجه أو اللهجة، يشكل واحدة من أبشع صور العنصرية المقنّعة بالقانون والأمن، ويقوّض واحدة من أبسط حقوق الإنسان ، حرية التنقل دون خوف أو تمييز.
تنبع خطورة هذه الظاهرة من كونها ليست مجرد ردود أفعال عفوية، بل تعبّر عن مشروع متكامل للنخبة النيلية التي تحاول إعادة تشكيل السودان على صورتها، عبر سياسات طاردة، لا ترى في التعدد الإثني والثقافي سوى تهديد، وتعتبر كل قادم من الهامش “دخيلاً” حتى لو أثبت التاريخ عكس ذلك.
المشهد اليوم يعيدنا إلى تجارب الفصل العنصري التي عرفها العالم في جنوب أفريقيا أو في أمريكا قبل حركات الحقوق المدنية ، القوانين العرفية التي تُمارَس في بورتسودان تهدف لإعادة إنتاج شروخ تاريخية صنعتها النخبة النيلية شتاتٌ جديد، وعزل اجتماعي ممنهج، وتصنيف المواطنين حسب أصولهم، لا كفاءاتهم ولا إنسانيتهم.
إن ربط المظهر أو الانتماء الجغرافي بشرعية التنقل، وفرض رقابة ضمنية على “حق السفر الداخلي”، يضع السودان في قائمة الدول التي تشرعن للفرز العرقي على حساب الحقوق الدستورية، ويهدد بتفجير وحدة ما تبقى من النسيج الوطني.
ما يحدث هو استكمال لأدوات النخبة في تقويض الوحدة الوطنية ، ففي الوقت الذي يدفع فيه أبناء دارفور وكردفان أثمان الحرب والتهجير، ويأتون إلى بورتسودان بحثاً عن ملاذ، يُقابلون بسياسات طاردة تُشرعن التمييز، وتفتح الباب أمام تفكك اجتماعي طويل المدى.
الحل لا يكون بإدانة هذه السياسات فقط، بل بكشفها، وتسميتها، ومقاومتها علناً ، يجب أن تُدرَس هذه الممارسات كسياسات فصل عنصري داخلي، تُهدد فكرة السودان ذاته كدولة جامعة ، ويجب أن يُصاغ خطاب وطني جديد يُعلي من شأن التنوع، ويُسقط الامتيازات الزائفة التي بنتها النخبة النيلية على حساب بقية المكوّنات.
إن “قانون الوجوه الغريبة” ليس مجرد خطأ أخلاقي، بل جريمة سياسية وثقافية بحق ما تبقى من أمل في بناء وطن يتسع للجميع.